شعار قسم مدونات

خطوات نحو مشروع قناة أطفال عربية رائدة

مدونات - براعم قناة أطفال

فضاءنا العربي ملبد بالكثير من الغيوم الغريبة التي تعبث ليل نهار بعقول ونفوس أطفالنا، والذين يمثلون أهم مقومات الأمة، ووسيلتها الأولى للنهوض بها من سباتها الذي طال زمنه.. فللعجز الضارب أطنابه في أوصال أبناء هذه الأمة، ومع ما يعيشه الطفل العربي من تردي في التعليم: لبدائية وسائله المستخدمة في التدريس، وفقدان الضمير عند من يملكون القرار في بلداننا، وغياب المسؤولية والجهل لدى الكثير من شرائح المجتمع "آباء ومعلمين".. فهو يعيش غربة عن واقعه وثقافته وفيسولوجيته، يفقد ذاته كل يوم: مرة بداعي مصلحته، ومرات عديدة كهدف يجب تدميره.. ففي كل لحظة تمر به، تصب عليه من السماء عذابات يصطلي بنارها، لتفتك بهويته ودينه وثقافته، وتحدث دمارا شاملا في نفسيته وانفعالاته، بما تعرضه تلك القنوات الفضائية العربية المخصصة للأطفال من برامج، والتي تستهلك الكثير من وقته بما تحمله من وسائل الإبهار والتشويق والمتعة.

 

فمع ما تمثله مرحلة الطفولة من خطورة تبنى عليها مصير أية أمة أو حضارة، إلا أن هناك غياب إدراك لذلك الأمر، فلهذه المرحلة من العمر خصائصها التي يجب أن تراعى من الآباء والمربين والمعلمين، لأنهم من بيدهم التأثير على هذه النسمة الطرية، كما يجب عليهم أن يعرفوا مدى تأثير الإعلام بوسائله المختلفة على عقل ونفس الطفل، وكيف يعملون على أن يطوعوه لخدمة تربية هذا النشء تربية سليمة ونافعة.. في ظل هذا الانفتاح الكبيرة الذي لن نستطيع رد تأثيره إلا بصناعة من نفس نوعه وقوته وفق ما يراه "نيوتن" في قانونه الفيزيائي .

 

ففي واقعنا المعاصر فإن ما يبث لأبنائنا من برامج على الفضائيات العربية المتخصصة، فإنه لا نستطيع إلا أن نصنفه في خانة ما يدمر أخلاقه وقيمه ونفسيته في أغلبه، ويعمل على القطيعة بينه وبين تاريخه وثقافته وهويته.. إذ أن ما يعرض صمم وأنتج لبيئة وثقافة غير ثقافتنا وبيئتنا من جهة، ومن جهة أخرى فإن بعضها أنتج خصيصا لتدمير حصننا الأهم الذي نؤمل به صناعة مستقبل مشرق .وفق دراسة مسحية سابقة أعددناها عام 2011م لمشروع قناة تلفزيونية رائدة للأطفال، تضمنت هذه الدراسة البحث في محتوى قنوات الأطفال العربية ومدى تأثيرها على الأطفال، ودورها التربوي، ولمدة عام كامل من الرصد والمتابعة لهذه البرامج، والمقابلات مع الأطفال والمتخصصين في علم النفس والإعلام، والنزول الميداني للمدارس والجامعات ومراكز البحوث ومكاتب القنوات، والأندية والحدائق والمنتزهات.. اتضح لنا بأننا أمام سيل جارف من القيم والسلوكيات الدخيلة التي همشت دور مراكز التربية المتعارف عليها، لتتصدر هذه البرامج تربية أطفالنا وصناعة قناعاتهم شئنا أم أبينا!

 

undefined

 

ووصلنا من ذلك إلى خلاصة أننا أمام نوعين لا ثالث لهما فيما يبث من برامج في هذه القنوات:
الأول: قنوات تجارية ربحية، يقوم عليها ثلة من التجار الذين يريدون أن يحققوا أرباحا ولو حتى على مصير أمة، لا يهمهم ما يعرض، ولا ما التأثير الذي سيحدثه في مستقبل ننشد فيه أن نخرج من أزماتنا التي نتخبط فيها.. قد جمعوا مع ذلك جودة في المنتج من الناحية الفنية والإخراج، لتكون بذلك الوسيلة الإعلامية الأولى تأثيرا في تربية أطفالنا.

الثاني: قنوات أنشئت كردة فعل على ما تحدثه القنوات السابقة من تأثير وتدمير، لكنها تفتقر إلى الجودة من الناحية الفنية والإخراج والتنفيذ، لتفعل في كثير من الأحيان على تدمير نفسية الطفل ومواطن الجمال فيه، فهو يعزف عن مشاهدتها لينتقل إلى الأخرى التي تشبع ميوله النفسي، وتحاكي انفعالاته التي غفل عنها من يقومون على هذه القنوات البدائية.

 

وفي وسط هذه الأمواج المتلاطمة ينبعث بريق أمل لبعض التجارب الناجحة التي جمعت بين التفوق من الناحية الفنية والإخراج المتميز، وبين التوافق مع ثقافتنا العربية والإسلامية في كثير مما يبث فيها من برامج، بدراية بما يناسب فترة الطفولة كمرحلة لها انفعالاتها ونفسيتها الخاصة.

 

فقناة "الجزيرة للأطفال" قبل أن تتحول إلى قناة "ج" وقناة "براعم" المتخصصة للمرحلة المبكرة من الطفولة.. هما بارقة الأمل التي رصدناها في دراستنا السابقة، وفق المعايير التي نريدها لقناة أطفال عربية رائدة، فالقناتان أنشئتا لغرض أن تقدمان خدمة تربوية لأطفالنا، بعيدا عن الربح الذي يجعل مستقبل بلداننا هم القربان الذي يجب أن يقدم.. لكنها اللازمة العربية التي لا تجعلنا نصعد قدما إلى الأعلى، فقناة "ج" الآن كغيرها من القنوات الأخرى الموجودة في فضاءاتنا في أكثر ما تقدم، ولكنها أقل منها، فهي لا تشجع الاستهلاك وتربي المشاهد عليه، وذلك بأنها لا تؤمن بالإعلان التجاري للأطفال، مع أن هناك حلول لجعل الإعلان التجاري وسيلة تربوية نستفيد منها كمورد مالي مهم، لكنها في المقابل لم تستطع المواصلة بفعل التكاليف المالية الزائدة، فقامت إدارتها بتشفير القناة، وحرمان قطاع كبير من المشاهدين من أمل كان يسلينا في زمن الانحطاط، على رغم ما حدث لها من تغير في سلسلة برامجها.

  
أما "براعم" قناة الطفولة المبكرة، فما زالت محافظة تماما على رونقها الدائم، بل وفي تصاعد للأفضل، لكنها شفرت بصحبة أختها الكبرى "ج".. لتترك شرخا كبيرا لدى قطاعا عريضا من الساخطين والنادمين في آن، على ما كانت تمثله هذه القناة -خاصة- من محافظة على اللغة والهوية العربية لكثير من المهاجرين العرب بحسب استطلاع في تركيا، وأيضا للقاطنين في بلدانهم العربية كمعلم يحمل التشويق والمتعة لأطفالهم، وسد ما تفقده وسائل التعليم العتيقة في المدرسة من رونق كل يوم.

 

undefined

 
لذلك يجب أولا: أن نؤمن بأن هناك مشكلة كبيرة، بل دمارا شاملا يترصد مستقبلنا جميعا، وأننا وحدنا من عليه أن يتحمل المسؤولية ويعالج حلها "آباء ومربين ومعلمين ومتخصصي الطفولة وأدبها وإعلامها" ولنبدأ بالتشخيص الصحيح لأجل ذلك!

 
وكوجهة نظر: فإن الدور الأول والأكبر في المسؤولية للخروج من مأزق قنوات الأطفال وبرامجها يقع على أدباء الأطفال والمشتغلين في إعلام الطفولة رسما وكتابة وإخراجا وتنفيذا.. وليكن أول ما تترجمه هذه المسؤولية من عمل هو التوعية المجتمعية العامة بما تمثلها مرحلة الطفولة من خطورة، وأن الأطفال لهم خصائصهم النفسية والحركية والعقلية المنفصلة تماما عن تلك التي يعامل بها الكبار أولا.. ثم التوعية بدور الإعلام المهم بوسائله المختلفة، من سلاح يمكن له أن ينقذ أمة من التردي أو يهوي بها في غياهب الذلة والضياع.

 

وبث هذه القناعات بأساليب مختلفة، مدعمة بالانطلاق من الواقع الذي نعيشه، وليكن ما تفعله شركة "ديزني" فقط في مجال أفلام الكرتون وبرامجها هي المثل لنا الذي نضربه، "فما من بيت مدر ولا حجر ولا وبر" إلا دخلته "ديزني" وأثرت في أطفاله وصنعت قناعاتهم كما يريد القائمين عليها!

 

وليبدأ العمل في التوعية بأول شريحة وهي شريحة "المثقفين والإعلاميين" من فنانين وكتاب ومراسلين صحفيين ومدراء تحرير وأكاديميين ومفكرين ودعاة وأئمة مساجد …إلخ .وبذلك سيصبغ كل عمل من أعمال هذه الشريحة المهمة بطابع الطفولة وخطورة التعامل معها ومع إعلامها، وما هو التعامل الصحيح في ظل التنافس العالمي المحموم في كل ما يقدم للطفل، وسينعكس هذا على واقع ما يتلقفه الناس عنهم من معلومات ودروس ومحاضرات ومتعة و… وبهذا يسهل الدخول فيما بعد على بقية شرائح المجتمع الأخرى، وسينتقل المجهود من فردي إلى جماعي يهم كل أفراد المجتمع والبلد والأمة.

 
وبالتأكيد فإن هذا العمل يحتاج إلى خطة مدروسة ومزمنة، لكنها ليست مستحيلة، فالمشاريع العملاقة التي غيرت مجرى الحياة قديما وحديثا، كانت مجرد فكرة رآها البعض مستحيلة التطبيق، لكنها أصبحت حقائق بفعل أن هناك من آمن بها، وبدأ بالسعي نحو تنفيذها، وهذا ما نراه في إعلام الطفل العربي وسيصنع المستحيل بإذن الله .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.